maganeno مشرفة قسم هل تعلم
sms :
رضيت بحكمك يا رب والصبر بزيادة
ظلمونى من غير ذنب حسدونى بزيادة
عدد المساهمات : 819 التقييم : 1 تاريخ التسجيل : 07/08/2011 الموقع : www.mbenh,yoo7.com
| موضوع: صباح ياسمين شامي الخميس سبتمبر 22, 2011 12:32 am | |
| صباح ياسمين شامي
د. هشام الشامي
هذه القصة كتبتها قبل حوالي ست سنوات ، و أعيد نشرها الآن كما هي ، بعد أن استيقظ شعبنا السوري وانتفض على جلاديه ونقلنا من عالم الحلم إلى عالم العلم أيقظتني زوجتي باكراً هذا الصباح بصوت هامس هادئ لا يوحي بأن لديها طلبات و أوامر كثيرة و مستعجلة تحتاج لتنفيذ فوري لا يحتمل التأخير، و عندما رأيت ابتسامتها الفاترة و فنجان القهوة بالحليب في يدها ، تجرأت و سألتها : ما الأمر الذي دعاك لإيقاظي قبل دوامي بأكثر من ساعة . أجابتني بصوت رقيق هامس : اشتهيت أن أحتسي القهوة برفقتك ، و دعتني لتناولها قرب البحرة في وسط بيتنا الدمشقي القديم . و عندما رأيت النافورة وسط البحرة قد عادت لتنثر الماء في الهواء من جديد ، و رأيت الورد الجوري و القرنفل يطفو و يسبح فوق مياه البحرة بعد غياب طويل ، عدت بذاكرتي لأكثر من عقدين إلى الوراء ، فأنا لم أجلس مثل هذه الجلسة العاطفية مع زوجتي منذ زمن بعيد . الله .. ما أجمل عبق الياسمين الشامي ، عندما يعانق عبير الفل و شذى الريحان ، تلك الياسمينة التي غرستها والدتي – يرحمها الله – امتشقت جدار بيتنا و طلت على الممر الضيق خارج البيت لتصبّح على كل أهل الحي الوادع بصفاء بياض زهرها و طيب فوحه ، و بينما كنت ارتشف فنجان الصباح مع زوجتي و انفض الغبار عن ذكرياتنا الجميلة ، سمعت صوتاً رخيماً ينادي ( حليب حليب ) ، تنهدت طويلاً ، و توجهت إلى زوجتي بالكلام : الله يا أم نور ، هل تذكرين هذا الصوت ، أنه صوت بائع الحليب أبو صياح ، الذي كان يأتي كل صباح على بغلته البيضاء حاملاً لنا الحليب مع الأمل من الغوطة الخيرة ، كنت أحسب أنني نسيت هذا الصوت الذي كان يحثني منذ طفولتي أن أدع كتابي و أركض لأمي في المطبخ و آخذ منها وعاء يملؤه أبو صياح لنا كل يوم . و بعد أن تبادلنا أطراف الحديث ، و استحضرنا تلك الذكريات البعيدة ، سألتها (و هذه المرة أنا من أسأل ) عن طلبات المنزل ، و ودعتني و هي تدعو لي بالتوفيق و الرزق و أن يحميني الله من الحكام و الظلام و أولاد الحرام ، و خرجت قاصداً عملي بكل نشاط و تفاؤل . كان لا بد لي أن أعبر ذلك الطريق الضيق المرصوف بالحجر الأسود المتناسق ، و الذي لا يتسع لأكثر من شخصين بجانب بعضهما ، و ما إن يلتقي مع طريق الحي الفرعي الآخر حتى يتسع شيئاً فشيئاً ، لأصل إلى السوق ، حيث الضجيج الذي لا ينقطع منذ بواكير الصباح و حتى بعد منتصف الليل . و أول ما لفت نظري عدم وجود ازدحام أمام الفرن ، حتى ظننت أنه مغلق ، لقد كان هناك شخصان أو ثلاثة فقط و قد اصطفوا بنظام وراء بعضهم ، بينما كان البائع يناولهم الخبز بشكل حضاري غير مألوف ، و قد نضده في أكياس نظيفة ( و كأنه خبز سياحي ) ، و هنا تذكرت المظاهرة التي كنت أراها كل يوم أمام هذا الفرن ، و الصراخ و السباب الذي كنت اسمعه هناك ، و قد انتشر حول الفرن السعداء (القبضايات) الذين فازوا بالوصول إلى نافذة البيع الضيقة و استطاعوا سحب رصيدهم من الخبز من تلك الكوة ( من فم الأسد ) ، بعد أن حرقوا أيديهم بحرارة الخبز الخارج من الفرن ، و تمزقت بعض الأرغفة في أطراف الفوهة الضيقة ، و أسرعوا إلى حافة الجدار ليمدوا كيساً من الخيش ، أو جريدة ( و هذه أهم فائدة للصحف اليومية في بلادنا ) لينشروا عليها الخبز، و هم ينظروا بشفقة و خيلاء لأولئك المساكين الذين سيحاربون كثيراً حتى يحصلوا على ما حصلوا هم عليه . هذا الهدوء الغريب أمام الفرن أرهبني ، لأن محل أبو تحسين الجزار بجوار الفرن ، و كنت أستطيع وسط الضجيج أن أفلت منه بعض الأحايين دون أن يُسمعني ذلك الموشح اليومي ، عن المبلغ الذي صار بذمتي له ، و يفتح دفتره الدسم ليريني بأم عيني صفحة ديوني ،لأشرح له في كل مرة أنني لا أستطيع أن أعطيه شيئاً حتى أستلم مرتبي ( الهزيل ) من الوظيفة أول الشهر، لكنه هذه المرة لا بد سيلحظني ، و هو الذي يراقب الرائح و الغادي بعينيه الواسعتين ، و بسبب الهدوء سمعت صوتاً رخيماً ينطلق من محل أبو تحسين ،إنه صوت الشيخ عبد الباسط يتلو من سورة الرحمن ، فينشر جواً من الخشوع و الهدوء و الأمان في المكان ، و عندما رآني أبو تحسين أنظر إليه بطرف خجول ابتسم و قال : الله يصبحك بأنوار النبي يا جار . فرفعت رأسي و أجبت : الله يصبحك بالنور و العافية و السرور أبو تحسين . لم يكن أبو تحسين هو العقبة الوحيدة التي يجب أن اجتازها كلما رحت أو غدوت إلى بيتي ، فها هو محل أبو حمدي البقال قد اقترب ، و لكن هذه العقبة تبقى أسهل من سابقتها لعدة أسباب ، أولها- لأن أبا حمدي غالباً ما يكون منشغلاً في داخل المحل بجلب طلبات الزبائن مما يسمح لي باجتيازها محافظاً على كرامتي و دون خسائر تذكر، و ثانيها- لأن واجهة المحل لم تكن كلها زجاج كواجهة محل أبو تحسين ، بل اكتفى بنافذة و كوة صغيرتين في وسط واجهة المحل ، النافذة لمناولة الزبون ، والكوة ينظر من خلالها و هو يحاور زبونه ، و لكن هاتين الكوتين لم تمنعا صوت فيروز الملائكي أن يعبق من المحل و يعانق مسامعي و هي تغني من كلمات سعيد عقل و ألحان الرحباني: شام يا ذا السيف لم يغبِ ** يا كلام المجد في الكتبِ قبلك التاريخ في ظلمةٍ ** بعدك استولى على الشهبِ وثالثها- و هو الأهم أن أبا حمدي لا يملك سكاكين و سواطير أبي تحسين . و ما إن اجتزت محل أبي حمدي بسلام حتى رفعت رأسي عالياً ، فمحل أبو جمال الحلواني الذي يصنع المحلاية و البوظة (بالدق اليدوي) لا يخيفني ، و لست مستديناً منه و الحمد لله ، لا لشيء ، إلا لأنه قد وضع لافته كبيرة في صدر المحل كتب عليها : الدين ممنوع و الرزق على الله . لقد كانت أصوات التفاؤل الثرة تنطلق بصوت المنشد أبي الجود من محل أبي جمال ، فتعانق مشاش الفؤاد ، سارعت بالسلام عليه ، فرد السلام و أتبعه بقوله : تفضل أبو النور . فأجبته شكراً و تابعت مسيري إلى عملي . كان هذا الطريق الوحيد الذي يجب أن اجتازه لأصل إلى الشارع ، قبل أن استقل سيارة الخدمة إلى مكان عملي ، يوقظ و يحرك كل حواسي ، فمن رائحة الخبز المنعشة ، إلى رائحة كباب أبي تحسين و رائحة الحمص و الفول و الفلافل و الشاورما و البيض المقلي بالسمن البلدي التي تجعل حاسة الشم عندي في أوج نشاطها و غددي اللعابية كنبع بردى . و من منظر لحوم الضأن و قد زينها أبو تحسين بالبقدونس و الكزبرة و النعناع ، إلى محلات الفواكه و قد تزينت بخيرات الشام من كل لون و شكل و طعم ، و ما أكثر فاكهة الشام و خضراواتها التي تغذي العين و الروح بأشكالها و ألوانها قبل أن تغذي الذوق و الجسد . وسط هذا الزحام ، و في زاوية ملتقى طريق الحي بالشارع ، نصب أبو سومر منشراً كمنشر الغسيل ، علق عليه الصحف اليومية ، و لعدم وجود إقبال على تلك الصحف المملة التي تكرر نفسها كل يوم ، كان أبو سومر يعرض صفحة الحوادث عوضاً عن عرض الصفحة الأولى و مانشيتاتها العريضة التي كانت على إيقاع واحد ، من حيث استقبل الرفيق و ودع الفريق ، و كان يرسم حول المواضيع - التي يراها تلفت الانتباه و تحث المواطنين على الشراء - خطوطاً عريضة حمراء و خضراء و صفراء ، فهنا خبر عن سرقة محل مجوهرات ، و هناك خبر عن جريمة قتل ضحيتها زوجة القاتل مع عشيقها ، و خبر آخر عن القبض على عصابة من الشباب العاطلين عن العمل و التي تمارس كافة الجرائم من اغتصاب و نهب و دعارة و تشليح و تشبيح ، و خبر عن موظف صغير سرق أكثر من خمسين مليون ليرة من دائرته .. و لكن هذا الأسلوب المشوّق لم يكن يجذب الكثيرين و يقنعهم بضرورة دفع عشرة ليرات من أجل جريدة أبي سومر المملة بعد أن يخصمها من حصة أهله و أولاده . و كان أهل الحي جميعاً يعرفون أن أبا سومر هذا لا يمكن أن يعيش مع عائلته من بيع عشرين إلى ثلاثين جريدة في اليوم ، ليس له منهم أكثر من ثلاثين ليرة في أحسن الأحوال ، و ما هو إلى موظف أمني لمراقبة الداخل و الخارج من الحي ، و إحصاء أنفاس البشر. و لأننا نخاف من المخابرات كنت أحاول ما استطعت أن لا أرى أبا سومر ( فأنزع صباحي ) و لا يراني ( فينتزع صباحه ) . لكنني هذا الصباح رأيت ما يلفت النظر حقاً ، رأيت جمهرة كبيرة من الناس قد تجمعت حول أبي سمير ، حتى ظننت أن المخبز قد انتقل إلى هناك ، و لأول مرة ساقني فضولي لأستطلع الأمر ، فرأيت جرائد أبي سمير قد عُرضت بصفحاتها الأولى ، و بمانشيتاتها العريضة ، و رأيت أبا سمير منشغلاً بمناولة زبائنه من تلك الجرائد المحلية الرسمية التي لم تكن تستهوي أحداً ، فتساءلت عن سر هذه الصحوة الثقافية الوطنية عند الجمهور ، و بدأت بقراءة عناوين الصحف : - السيد الرئيس يصدر مرسوماً بإلغاء قانون الطوارئ . - بعد أكثر من أربعة عقود ، قانون الطوارئ في سوريا باطل . - الرئيس القائد يصدر عفواً عاماً عن كل السجناء السياسيين و سجناء الرأي . - رئيس الجمهورية يأمر بتبيض السجون من السياسيين ، و يصدر عفواً عن المطلوبين خارج سوريا . - تعطيل قانون الطوارئ ، و دعوة المنفيين للعودة إلى بلادهم بأمان . - الرئيس الأسد يدعو لمؤتمر وطني شامل لا يستثني أحدا . - المؤتمر الوطني سينعقد بداية الشهر القادم برعاية الأسد ، و ستنبثق عنه حكومة مؤقتة لمدة ستة أشهر ، ستمهد لانتخابات رئاسية متعددة و تحت إشراف دولي . - السيد الرئيس يأمر بتشكيل لجنة للكشف عن المفقودين ، و دراسة كافة التجاوزات و التظلمات منذ تاريخ إعلان حالة الطوارئ ، و يأمر بتعويض المتضررين . - السيد الرئيس يُفعّل لجنة من أين لك هذا ؟ لمحاسبة الفاسدين ، و المعتدين على الحق العام مهما علت رتبهم و مناصبهم ، و يبدأ بآل بيته المقربين . و بينما أنا مندهش لما أقرأ ، لفني دوار شديد أخذني عقوداً إلى الوراء ، و بدأ شريط الذكريات يمر في خيالي كفيلم سينمائي قديم . تذكرت أخي أحمد الذي دخل السجن قبل أكثر من ربع قرن عندما اعتقل من داخل كليته ، و انقطعت أخباره منذ ذلك التاريخ ، و لا أدري هل هو على قيد الحياة ؟ أم أعدم مع الآلاف الذين أعدموا في السجون ؟ . و تذكرت أخي الآخر عبد الرحمن الذي سافر للاختصاص في تقويم الأسنان في جامعات فرنسا ، و بعد عشر سنوات من الاختصاص و العمل هناك وحصوله على الجنسية و الجواز الفرنسي انتقل للعمل في مدينة أبو ظبي ، و لم أره منذ ثلاثين سنة . و تذكرت أخي حسن الذي سافر إلى ألمانيا و حصل على دكتوراه في الفيزياء النووية ، و تزوج هناك من ألمانية ، و ما زال يدرّس في جامعات ألمانيا ، و لم يزر القطر إلى مرة واحدة في منتصف عقد الثمانينيات ، عندما تجرأ و حضر بعد وفاة الوالد الذي أصيب باحتشاء قلبي من حزنه على اعتقال أخي أحمد و مات من عقابيل ذلك الاحتشاء ، و عندما حضر حسن من ألمانيا للتعزية بوالده ، أعتقل من مطار دمشق ، و لولا جنسيته الألمانية و جهود زوجته و السفارة الألمانية لكان لحق بأخيه أحمد إلى سجن تدمر ، لكنه خرج بعد شهرين من السجن ليروي لنا قصص و مآسي السجون في سوريا . و تذكرت أختي الوحيدة أسماء التي تعيش مع زوجها و عائلتها في السعودية ، ولم استطع رؤيتها منذ ما يقرب العقدين ، و عندما تواعدت معها و مع أخويَّ بأن نتقابل في الحج لم يوافق الأمن على إصدار جواز سفر لي ، رغم كل ما دفعت من رشوة و قدمت من هدايا لرجال الأمن و المسؤولين . و تذكرت والدتي التي ماتت و الحسرة تحرق فؤادها ، أن يجمعنا من جديد بيت العائلة الذي أصبح في عهدتي لعدم وجود أحد من العائلة معي داخل الوطن الكليم ، و كانت توصيني دائماً بالمحافظة عليه و عدم بيعه أو التصرف به حتى يلم شملنا ثانية ، و هي لا تدري أنني لا أستطيع بيعه قانونياً إلى بموافقتهم جميعاً و هم بين مفقودين و منفيين . و تذكرت المرات العديدة التي اعتقلت بها ، للسؤال عن أخوتي ، سواء عندما كنت طالباً في كلية الهندسة ، أو بعد تخرجي منها، و معاناتي في الحصول على ورقة ( لا حكم عليه ) من الأمن لأتمكّن من الحصول على الوظيفة ، و الرشوة التي دفعتها لجارنا أبي سومر حتى حصلت على تلك الورقة ، رغم أنني لم أحاكم ، و كانت أطول فترة حجزت بها في السجن قرابة عام عندما أرسل لي أخي حسن حوالة مالية من ألمانيا كقرض ليساعدني على فتح مكتب هندسي ، لأبدأ حياتي العملية بعد تخرجي ، فحجزت المخابرات المبلغ ، و حجزت بسببه قرابة السنة في سجن كفرسوسة ، لأنني أقبل المال من الإرهابيين و العملاء !!. و بينما كانت تلك الذكريات تتدفق على مخيلتي كسيل جارف ، سمعت صوت زوجتي يخترق أذنيَّ و هي توكزني و تقول : استيقظ أبو النور ، لقد تأخرت عن عملك ، عليك أن تحضر لنا هذه الطلبات قبل ذهابك للعمل ، ولدك جائع و ليس لديه حليب ، ماذا أصابك ؟ لماذا لا ترد ؟ ، إنني أحاول إيقاظك منذ عشر دقائق . و سمعت صوت طفلي الصغير يبكي فيخترق صراخه عنان السماء ، و أيقنت أنني كنت في حلم جميل ، فرفعت رأسي و سندت ظهري على ناصية السرير ، و قلت بحسرة و تأوّه : يا الله ، حتى الحلم أصبح حراماً في أسدستان . مركز الدراسات الإستراتيجية لدعم الثورة السورية | |
|