maganeno مشرفة قسم هل تعلم
sms :
رضيت بحكمك يا رب والصبر بزيادة
ظلمونى من غير ذنب حسدونى بزيادة
عدد المساهمات : 819 التقييم : 1 تاريخ التسجيل : 07/08/2011 الموقع : www.mbenh,yoo7.com
| موضوع: نبضاتها الصغيرة تنتظرك الخميس سبتمبر 22, 2011 12:34 am | |
| نبضاتها الصغيرة تنتظرك
أفنان شمس الدين ريحاوي
كانت تجلس على الأريكة البنّية يقيّدها صمت كاسر، تضع على فخذيها وعدها المرصّع بفرحي، تخترق إبرتها قطعة القماش الحمراء مرغمة إياها احتضان الأزرار البرّاقة، ثم تعانق تلك اللوحة الفنية ورود فضّية حبكتها بإتقان على أطراف الثوب، وتروي عطش الأكمام بلآلئ نسجتها بتبادل بين الأحمر والفضي مشكلة خطوطا متعرجة تقطر روعة وحسنا، وهاهي تعقد الخيط الأخير بحذر معلنة اكتمال ثوبي الأحمر . ــ هل أفتح عينيّ يا أمي ..؟؟ ــ نعم، فقد أنهيتُ خياطته . لقد رأيت لوحة سماوية تتلألأ بين أنامل أمي وهي ترفعه للأعلى واقفة لتتوضّح معالمه، تناثرت عليه آيات الجمال، أضاءت فيه شمس الروعة، لمعت منه ومضات الإبداع جاذبة كل ألوان السعادة، شدت بلابله الخيطية عازفة ألحان الحسن الخلاب، اطلّ قمر الحلاوة في سمائه الحمراء فتسابقت عليه نجوم الأناقة لتحظى برقصات وقُبلات، كان الثوب جميلا...أنيقا...مرتبا...سحر قلبي بجماله...رسم بسمتي بجماله...خلق ضحكاتي بجماله...لوّن عينيّ سرورا بجماله... حملني بأجنحة جماله إلى عالم الخيال، ابتسمت...ضحكت...قفزت...ثم ركضت إلى حضن أمي لتضمني ناثرة عليّ بذور الحنان والشفقة، أمطرتها بالقبلات على حضنها ويديها، هتفت بسعادة : ــ شكرا...شكرا أمي . وأخيرا ثوبي الأحمر يصافح جسمي بحرارة، حملتني أمواج بحره الأحمر إلى الأعماق فغصت في أحلامي وآمالي، أدور وأدور حول نفسي فتطير أطرافه السفلية عاليا راسمة زهرة كبيرة حمراء تدور برشاقة مغنية أجمل النغمات الضاحكة، أتمايل برقصات فاتنة على أنغام طفولية أنشدها ببراعة، كدت أطير فرحا لولا صمت الأرضية والجدران الذي سجنني، نظرات أمي الممتلئة بمشاعر شتى...عطف...شفقة...حزن...رحمة...ألم...رأفة...لا أدري بالضبط أيها احتلت المساحة الأكبر في عينيها، لكنّ نظراتها مزّقت أجنحتي فتوقفت عن الطيران . ساد الصمت فجأة، خطر ببالي صورة أبي الحبيب، كم كان متلهفا لرؤيتي فيه، فقد أهداني قطعة القماش الحمراء آملا تكحيل عينيه بصورتي والأحمر يلفّني من كل جانب، وضعت يديّ على وجهي وأجهشت بكاءا، اقتربت أمي مني انحنت نحوي واضعة كفيها على كتفيّ، سألتني : ــ لماذا تبكي يا فرح..؟؟ ــ متي يعود أبي ..؟؟ والآن لمحت في عينيها بريق الدموع ينذر بشلال جارف، أقامت عليه سدا منيعا لئلا يجري فيحطم حلم طفلة برؤية أبيها، تظاهرتْ بالصمود وداخلها يشتعل بالحمم النارية، تصنّعت نبرات قوية قائلة : ــ قريبا إن شاء الله . ثم أدارت وجهها...قامت وهي تخفي تحت هدوئها ألما، تلقّيتُ بقايا جملها المبعثرة في الهواء : ــ فرح...اخلعي ثوبك الجديد لئلا يتسخ . زمجرت بعصبية طفولية : ــ ومتى ارتديه إذن...؟؟ ــ في العيد . أطلقت كلماتي بانفعال مشوب بالغضب : ــ أيّ عيد يا أمي..؟!! ما زلنا في أول الصيف ... التفتتْ إليّ...رمقتني بنظرة غريبة...رمتني بسهام حروفها الغامضة : ــ عيد النصر . النصر...كلمة جديدة اقتحمت بيتنا مؤخرا، ها أن أسمعها للمرة الثانية، فقد سمعتها من أبي قبل اختفائه منذ ثلاثة أيام، ما معناها....؟؟ لا أدري...لكنها تشيرإلى الفرح والسعادة، فهي عيد جديد لم نعش أيامه قط، انضمّ إلى أعيادنا ليسقينا ماءا عذبا كدنا نموت عطشا له، سأنتظر ذاك العيد بفارغ الصبر...سأكون سعيدة فيه...سيعود أبي...سأرتدي ثوبي الأحمر له...سيشتري لي الحلوى والألعاب...سيصطحبني إلى الحديقة...سيجلسني على الأرجوحة ويهزها بقوته فأطير فرحا......متى ستأتي يا عيد النصر...؟؟؟ واستسلمت للنوم على أحلامي الوردية البريئة...والتي كانت لوحات فنية رسمتها بيديّ الصغيرة ولوّنتها بألوان الربيع تاركة أنوارها تطالب الزمن بميلاد عيد النصر . احمرّتْ وجنتا الشمس خجلا من ظلم عروق الدم الواحدة، أرادت الهروب فغصبها القدر على الإشراق، اطلت من وراء الأفق على مدينة حمص، مرغمة على استنشاق روائح الغدر والخيانة ورؤية قطرات الدم الأشقاء من أرض واحدة تتطاير إلى كبد السماء راسمة جرح وطني سوريا . استيقظت مستجيبة لنداء أمي المتواصل، ألبستني زي المدرسة...أعطتني مصروفي...أعدّتْ لي كوب الحليب وشطيرة الجبن...تناولت فطوري...وقفت قرب النافذة أنتظر الحافلة...مر الوقت ولم تأتِ بعد فأوصلتني أمي إلى المدرسة بسبب إلحاحي عليها، كانت خائفة...ودّعتني بحرارة على أمل اللقاء ظهرا، خاطبتني بنبرة صارمة : ــ لا تعودي إلى البيت وحدك، سآتي ظهرا وآخذك . قاعة صفي تضج بعاصفة التساؤلات، أغلب المقاعد فارغة، الجدران خرساء، لوح الكتابة شاحب، الطباشير صامتة، عيون المعلمات دامعة، المدرسة مفرغة من الضحك والملعب يخلو من الكرة والأولاد، أيادي الحزن تبصم على كل رقعة في مدرستي، أمّا علم بلادي فما زال يرفرف عاليا رافضا السجود للكاذبين . هاجر...لمياء...عصام...رغد...أحمد...مؤيد...لين...ثلة من أصدقائي تنتظرهم مقاعد الدراسة للعودة إليها، أخبرتنا المعلمة أنّ حافلتنا تعرّضت لرصاصات الجيش السوري، وأنّ أصدقائي نقلوا إلى المستشفى، طلبتْ منّا التغيّب عن الدوام لحين عرس الوطن . لا أب...لا مدرسة...لا أصدقاء...لا ألعاب...لا معنى لحياة الأطفال إذن . انتظرت أمي طويلا...لم تأتِ ...فعدت إلى البيت وحيدة...باكية...خائفة...أبحث عن الدفء المدفون في باطن الأرض. دخلت البيت أبكي...أصرخ...أنادي : ــ أمي...أمي...لقد نقلوا أصدقائي إلى المستشفى . سمعتُ أنينها قرب ساحة البيت، خرجت فرأيتُ مجموعة رجال يلتفون حولها، يلبسون زيا أخضر، واحد ينزع الحجاب عنها...آخر يضرب رأسها بعصاه...ثالث يرفسها بحذائه القذر على بطنها...آخرون يقفزون على ظهرها ليلتقط خائن منهم صورة جماعية لهم، انتفضتُ بذعر...ارتجفت جميع أطرافي...تحركتُ نحوهم أقذفهم بصفعات يديّ الصغيرة...أركلهم بأقدامي الطفولية...أزمجر فيهم صارخة : ــ ابتعدوا عن أمي...ابتعدوا أيها الوحوش . لم تنفذ صرخاتي إلى قلوبهم الحجرية، بل نلتُ ركل أرجلهم فحلق جسمي بعيدا، رحل الوحوش تاركين أمي تسبح في الدماء...ظلت تسبح حتى غرقتْ...ظلت تأنّ حتى سكتتْ...بقيتُ جانبها أنوح...أستغيث...أنادي...أصرخ...انفجرتْ دموعي على دمها فحطمت حقوق الأطفال، اختلط ماء الملح بالعذاب ففاحت منه روائح الظلم والإستعباد، جفتْ دموعي وما زال دمها ينزف، فقدتُ الوعي مذعورة من لون الدم، فجثوت أرضا بجانبها أشاركها السباحة . ما زال تراب البيت ينادي حرا يرحم نبضات طفلة صغيرة، طفلة ترتعش كعصفور يحتضر، تتنفس بصعوبة فصورة أمها تخنقها، ترفع ذراعها علّ أحدا يساعدها وتعود ذراعها فارغة لم تجني غير الألم، بكى التراب فطفلتنا الضحية تستنجد....ولا مجيب . ما زالت فرح تنتظرك أيها العيد...فأنتَ الصندوق الذهبي الذي وضعتْ فيه أحلامها، فرح تنتظر حضنك...دفئك.. اغمرها بالحب والأمان...أكرمها بالعطف والحنان...فرح حية تنبض بقلبها الصغير منتظرة أفراحك....فلا تتأخر على فرح وباقي الأطفال أيها العيد .
| |
|